الفصـل الثاني والعشـرون:
كل شئ إلا الفراق.. فمتسبنيش وانا مشتـاق.
وقفت بينـار أمام باب غرفة نازلي، تفرك يداها ببعضهم البعض بتوتر وإرتبـاك، كل حماسها وتلهفها تبخر وهي تقف امام باب الغرفة، تخشي الدخول والاعتـراف فيقابلها الجفاء من الاخري، لا تعلم ماذا تفعل! نظرت بعيون تغشاها طبقة من الدموع لنزار الذي يراقبها بصمت كأنها تسأله الرحيل، لكنه لم يعطيها الجواب المريح، حيث مـد يده وفتح الباب دون طرق حتي ودخل وهو يمسك بيدها بين يديه..
التفتت نازلي التي كانت تجلس علي الفراش، تتلاعب بهاتفها لهم فتفاجئت من دخولهم عليها بهذا الشكل، كما اثار انتباهها حالة بينار العجيبة والدموع المترقرقة بعيونها، اقتربت منهم سريعًا ووقفت امام بينار تتفقدها وهي تهتف بتسأل قلق علي تلك السيدة الحنونة:-
_طنط بينار انتي كويسة؟ لية بتعيطي.. حد زعلك.. طنط.. طنط؟
لكن لا رد من الاخري، التفتت لنزار تسأله لكنه وجدته صامت لا يتحدث.. عادت بعيونها للاخري.. وجدتها ترمقها بنظرات غريبة.. لم تفهمها قط، نظرات شـوق وحب جارف، شـوق ام لأبنتها، مـدت بينار يدها ببطء لتحاوط وجه نازلي بين كفيها الحنونتين، بدأت تلمس وجهها بحنية عجيبة وهي تهمس:-
_بنتـي..
صمتت لـ لحظى كأنها تتذوق الكلمة لأول مرة بشفتيها ثم كـررت من جديد بلهفة أشـد وهي تسحبها لتغمرها بين احضانها:-
_نازلي بنتـي..
ودفنتها بين احضانها والاخري يظهر عليها عدم الفهم، لكن رغم هذا استكانت بين ذراعي بينار وهي تتلمس من بينهم دفء غريب..
لا تعلم.. كم مـر من الوقت، لكن بينار تلك لا تتركها تهرب من بين ذراعيها وهي تبكي مرددة ‘ بنتي.. بنتي ‘
ورغم هذا لم تسئم.. بل تمنت هي ايضًا لو لم تنتهي تلك اللحظات، ابتعدت بينار عنها اخيرا وعادت تضم وجهها بين كفيها وهي تقول بينما تتأملها بحب:-
_انتي بنتي يانازلي..
قالت نازلي بتشـوش:-
_بنتك ازاي؟ اها قصدك بتعتبريني زي بنتك وكدا…
قاطعتها بنفـي قاطع:-
_لا انتي بنتي.. بنتي انا وفاروق
ولم تتـرك للاخري فرصة للحديث والاعتـراض بل سحبتها واجلستها وجلست بجوارها علي اريكة موجودة بالغرفة وبدأت تشرح لها كل شئ..
بنفس اللحظة.. كان نزار قد انسحب من بينهم وخرج من الغرفة، وقف في احد شرف القصر المطلة علي الحديقة، يتطلع بشرود امامه قطع عليه خلوته صوت رحمة:-
_هنعمل اية؟
التف لها بتعجب.. فقالت موضحة:-
_الاول كنت بساعدك علشان واحدة غلبانة.. تخيل بعد ما عرفت ان الغبانة دي بقيت اختي.. هسيبك لوحدك تجيب حقها وحقنا
تفهم انها سمعت حديثهم فتنهد قبل ان يقول:-
_انتي عايزة تعملي اية؟
صمتت لـ لحظات قبل ان تقول:-
_سبلي رشوان وابنه؟
اؤما هاتفًا:-
_ياريت.. لأني مش فضيلهم
كادت تغادر لكنه امسك يدها و:-
_نازلي ملهاش اي ذنب في اي حاجة حصلت، نازلي ضحية لغلطات امك وفاروق ورشوان.. هي اللي دفعت تمن كل اللي عملوه، دفعت تمن حقارة رشوان وفاروق واسف يعني.. غباء عمتي، فمتقسيش عليها واتقبليها
ابتسمت وهي تردف:-
_انت اللي بتقول كدا؟
اؤما بنعم ببسمة تكاد تري و:-
_لو كنت جيت عليها انا كمان يبقي عمري ما كان ينفع اقول اني بحبها، مينفعش انا كمان اظلمها، كفاية عليها اللي حصل
ربتت علي كتفه هاتفة:-
_معاك حق..
وتركته قبل ان يقول شيئًا اخر، ينظر في اثرها هاتفًا بشرود:-
_ياتري اللي جاي مخبي اية كمان؟
بالداخل.. انتهت من سـرد الحكاية ورفعت انظارها تري اثر وقوع الحديث علي نازلي، وجدتها تنظر لها بصدمة وتشوش، تنهدت قبل ان تقول:-
_عارفة ان اللي قولته مش سهل، بس هما قفلوا كل البيبان في وشي، عمري ما جه في بالي انهم ممكن يعيشوني في كدبة زي دي، انا عارفة انك ممكن متتقبلنيش وتشوفيني ظلمتك زيهم بس والله ما بأيدي، انا دلوقتي بتقطع من حوايا.. انا..
لم تترك لها فرصة لـ الحديث بل اسرعت بألقاء نفسها بين احضانها.. تبكي وتبكي.. بكامل عزمها وقوتها وضعفها.. تبكي اوجاعها لها.. تبـث لـ الاخري قليل من ما عانته بدونها، تعرفها ما تحمله بداخلها من الآم، لحظات وبدأت بينار تشاركها البكاء عليها وعلي ابنتها التي كسبت منها سـوء الحظ..
دخلت رحمة ورمقتهم للحظات بجمود غريب تخفي داخله ألم عظيم علي حالتهم، قبل ان تتقدم وتحتضنهم سـويًا بين ذراعيها تربت عليهم بحنان وكأنها هي الام!
ومن بعيد وقف راجي يتابع ذلك المشهد بحنان وبسمة لطيفة قد ارتسمت علي شفتيه
وجد من يربت عليه التف ليري مَن هو.. وجده نزار الذي قال بملامح جامدة وهو يتابع ذلك المشهد:-
_علشان نفضل نشوف المشهد دا.. لازم نخلص من فاروق
اؤما راجي موافقًا علي حديثه و…
*****
قبـل ان تصل خطواته لمشارف مزرعة الرشيد وجد من تمسك يداه وتلفه ليواجهها، هتفت نغم وهي تحاول ان تقنعه:-
_مينفعش ندخل خبط لزق كدا ونقولها اننا اخواتك من الاب يايامن، ونقولها ان رشوان مش ابوكي وليكي اب غيرك، عارف بوجودك وسايبك لواحد زي رشوان خسيس وولا هامه، ونصدمها كدا بوجودنا
قال بعند:-
_ومينفعش تعيش وهي مفكرة انها لوحدها ومعهاش حد
قالت بتنهيدة حارة:-
_لا معاها.. نزار اللي اتجوزها علشان متبقاش لوحدها، وعمي راجي وطنط بينار.. واحنا.. مش مهم الصفة اللي احنا معاها بيها.. لكننا المهم هنبقي معاها، ارجوك.. احنا منعرفش بابا ممكن يعمل اية لو عرف!
قال بضيق:-
_مش قادر..
ربتت علي كتفه و:-
_شوية بس، نحاول نفهم اية اللي في دماغ بابا وبعدين نقرر هنعمل اية.. المهم انت قولي سمعت اية من بابا خلاك جيت علطول كدا؟
تنهد مجيبًا:-
_كان بيكلم رشوان دا وبيقوله انها لازم ترجع من قصر الرشيد، لو عرفوا انها بنت بينار وبنته يبقي هينسوها للابد وهو معندوش استعداد يخسرها.. وعنده استعداد يعمل اي حاجة حتي لو هيقتل نزار زي ما عمل مع ابوه علشان ترجع
ضحك بسخرية وهو يقول:-
_تخيلي بيقول معندوش استعداد يخسرها وهو سبب في كل اللي بيحصلها وعذابها اصلا!
قالت وهي تضيق ما بين حاجبيها:-
_وانت اية اللي عرفك بعذابها اصلا! بابا؟ معقول بابا عارف باللي بيحصل معاها من رشوان وساكت؟
اؤما بالنفي:-
_رشوان مأقنع بابا تقريبا انها هربت وراحت لنزار علشان بتحبه.. لكن انا عرفت من عدي.. هو عارف
اؤمات بنعم وهي من داخلها يتفاقم ضيقها وغضبها علي والدها ذاك.. وحزنها علي شقيقتها.. نعم شقيقتها التي ذاقت عذاب الدنيا لوحدها بدلا عنهم جميعًا!
كأنها اخذت كل نصيب الحزن عنهم.. وتركت لهم الراحة والسعادة!
*****
مـرت عدة ايام..
ما حدث فيهم سـواء تعمق العلاقة بين الام وابنتها سواء نازلي وبينار.. او زهراء وكوثر امها التي بدأت تتأقلم علي الحياة سريعا بعد الافاقة من غيبوبتها، رحمة التي اختفت من جديد.. وزهراء وعدي التي بدأت تصفو و.. تحلو حياتهم
ساعدها لتتسند عليه وتسير علي العشب حافية القديم كما ترغب وهو يبتسم بسعادة عليها وهو يراها تبدأ تخطو عدة خطوات وان كانت بحاجة الي ساند ايضًا، توقف عن السيـر فتوقفت هي ايضًا تنظر له بتسأل..
عـدي:-
_مش كفاية؟ عايزين نفطر..
اؤمات موافقة رأيه:-
_معاك حق، زمانهم كلهم مستنيينا اصـلًا، يـلا..
وسـار عائدين لـ المنزل، همس وهو يهبط لمستواها قليلًا:-
_بقولك؟
التفتت تنظر له بتسـأل فأردف غامزًا:-
_بقول بما انك راضية عني الايام دي اية رأيك اخدك ونختفي يومين ونتمم ام الجوازة اللي..
لم تسمح له ان يتابع وهي تشهق بصدمة، ضربته علي كتفه هاتفة:-
_قليل الادب..
وابعدت يـداه التي تحاوطها عنها، وبدأت تسير بأتجاة المنزل مستندة علي الحائط.. بينما وقف هو يضحك عليها بعلو صوته
سمـع صوته من خلفه يناديه.. التف خلفه وو..
*****
_ممكن ادخل؟
قالها نزار وقد كان دخل بالفعل، نظرت له نازلي بصمت كانت تلك اول مقابلة تجمعهم وهم منفردين بعد اخر صدمة جمعتهم، حيث كان يتهرب من لقائها وان حدث وتجمعا، كان يتهرب من عيونها..
تفهم نظراتها فقال شارحًا:-
_سبتك الفترة اللي فاتت علشان كنتي مشغولة بعمتي و..
اؤمات بتفهم قبل ان تقول بنبرة هادئة.. غريبة عليها:-
_جاي علشان نروح نتمم اجراءات الطلاق؟ ولا غيرت رأيك؟
ضيق ما بين حاجبيه وهو يقول بتمهل بينما يرمقها بتركيز:-
_اللي انتي عايزاه هعمله..
ضحكت بسخرية و:-
_اللي انا عايزاه! اول مرة انت او غيرك تسبلي فرصة للاختيار، دا حتي الدنيا نفسها عمرها ما عملتها معايا، كل قراراتي بتبقي بين اختيارين.. ملهمش تالت.. اقلهم وجع وتأثيـر بيقتل فيا حاجة.. وحاجة ورا حاجة لحد ما زي ما انت شايف كدا انطفيت
كان يعلم انها لا تقصده هو بحديثها.. بل ترغب بالفضفضة فصمت.. سامعًا فقط
تابعت:-
_مكنتش بحب اسمي، كنت عايزة اغيره بس اللي مفروض امي رفضت خيرتني يا هو يا واحد تاني أوحش بكتير، في مدرستي كانوا بيتنمروا عليا علشان ضعيفة ولو رشوان اللي مفروض بابا جه في مرة علشان مشكلة ورغم اني مش ببقي غلطانة كان بيزعقلي قدام الكل.. وبيحرجني قدامهم.. قولتلهم انقلوني رفضوا.. قالي يا تكملي فيها يا تبطلي، مش عايزة اتمرن سباحة بحب الموسيقي.. يا سباحة يا مفيش نادي.. مش بحب الكلية دي.. يا هي يا مفيش، مش عايزة اشتغل معاك.. مفيش خروج من البيت، كل حاجة بعملها ليها تمن.. مفيش حاجة ببلاش.. حتي انت دايما بتحطني بين اختيارين..
صمتت قبل ان تقول:-
_جاي تقول انك مش عايز تطلقني بعد ما عرفت اني بنت عمتك صح؟ حبك ليا في الاول مشفعش عندك.. لكن لما عرفت اني بنت عمتك مش مجرد بنت فاروق بس قرارك اتغير، وانا.. انا عليا اقبل بقرارك مهما كان.. صح؟
اؤما بالنفـي و:-
_انا عايزك علشان بحبك.. مش علشان حاجة تانية
اؤمات بالنفـي كأنها لا تسمعه و:-
_انا عايزة ابدأ حياتي من جديد.. ومش هتبدأ غير لما اقتل نازلي دي من جذورها وابعد نازلي عن كل اللي بتحبه او تخاف منه.. انا عايزة اغير اسمي واتمرن موسيقي و.. واطلق.. مش عايزة ابقي انا.. انا..
قاطعها وهو يقترب منها ويحتضنها بدون سابق انذار:-
_هنعمل كل حاجة واحنا سـوا.. هتعملي كل حاجة وانتي معايا
كادت تعترض لكنه لم يعطي لها الفرصة مكملًا:-
_انتي بتحبيني وانا بحبك، هتحبيني انتي ونازلي او غيرها وانا هحبك في كل الاوضـاع، مينفعش نبعد عن بعض.. انا مقدرش اعيش من غيرك
صمتت لـ لحظات ورفعت عيناها تنظر له تتأمله قبل ان ترمي نفسها بأحضانه هي تلك المرة مغمغمة بدموع:-
_ولا انا.. انا بس.. مشوشة.. حيرانة، جوايا الف صوت ومية فكرة
شـدد من احتضانها و:-
_كل حاجة هتتحل.. ثقي فيا
*****
سمـع صوت من خلفه يناديه التف خلفه وجد خالته التي تركت حقيبتها ارضًا وتقدمت نحوه تحتضنه باكيـة وهي تردف:-
_عمك حسان اختفي ياعـدي..
اترك رد